الكتابة في مجال الخوارق والعلوم الغيبية مغامرة محفوفة بالمتاعب – لاسيما في مجتمعاتنا الشرقية – لعدة أسباب جعلت من رواد هذا المجال - القديم والحديث في نفس الوقت – هدفا مستمراً للسخرية والشكوك والهجوم، وفي أحسن الأحوال الشفقة المشوبة بالتندُّر والتفكُّه .
ومن أهم هذه الأسباب المتعددة :
1- أن مجال العلوم الغيبية – كما يتضح من اسمه – يختص بهذه الفئة من العلوم والطاقات التي تنتمي إلى مجالات وحقول وترددات فائقة من الطاقة، يتعدى مداها قدرة الحواس البشرية على الإدراك، ومن ثم في تمر بها مرور الكرام دون أن تعيرها التفاتاً، إلا في الحالات التي تكون هناك ضرورة ملحة لإحداث اتصال بين الوعي البشري و بين الأنواع المتعددة لهذه القوى والطاقات .
ولما كان الإنسان عادةً قد تعلم منذ طفولته ألا يثق إلا بما تمليه عليه حواسه، بما تلمسه وتشمه وتراه وتسمعه وتتذوقه من آثار العالم المادي، فقدَ إنسان العصر الحديث عشرات من الحواس، التي كان يتمتع بها أسلافه البشريين من أبناء الحضارات السابقة، الذين أصبحت تفصلنا عنهم عشرات الآلاف من السنين، والذين تفهَّموا جيداً طبيعة هذه القوى – كما سوف نرى – بل وطوّعوها لبناء حضاراتهم، التي مازالت أسرارها المذهلة عصية على الشرح والتفسير .
2- اعتماد مناهج العلوم التجريبية على المشاهدة وتسجيل النتائج، التي تتحقق مادياً و معمليا ، مما صبغ عصرنا الحديث بأكمله بهذه الصبغة المادية ، و ذلك نظرا لتغلغل العلم التجريبي و تطبيقاته " التكنولوجيا " في حياتنا المعاصرة بشكل كاسح ، فأصبح اعتماد الناس حاليا في غالب نشاطات حياتهم على الأجهزة و الآلات التي ساهمت في إخماد عدد كبير من الملكات و المهارات التي كان يتطلبها الاعتماد على قدرات الإنسان ، مما جعل بعض الدراسات النفسية تتنبأ بفقدان الإنسان لمعظم ملكاته في عصر قريب بتأثير التقدم المريع للتكنولوجيا . و مما دعم الأمر أن العلم الحديث بمناهجه السابقة الذكر – و التي لا ينكر أحد فضلها رغم ذلك في تيسير سبل الحياة – قد أثر في طريقة تفكير الإنسان المعاصر ذاتها ، فنتج عن ذلك عدد من المفاهيم و الجمل الشائعة التي تشيع في قطاع المثقفين ثم لا تلبث بقية قطاعات المجتمع أن تتلقفها منهم لترددها ترديد الببغاوات مثل : " أنا إنسان متعلم ، لا وجود للغيبيات " ، أو " أنا مثقف ، التفكير الغيبي تفكير متخلف " ، فماذا يقول هؤلاء إذن إذا عرفوا – كما سوف تقرأ – أن كبريات معامل و معاهد البحث العلمي الغربية قد فتحت مجالا لدراسة و اكتشاف هذا المجال ( المتخلف !!! ) و اعترفت به و اعتبرت أن طاقاته هي بمثابة طاقات لم تكتشف قوانينها بعد ؟!!
3- سيطرة الجهل و التخلف لحقبة طويلة على مجتمعاتنا الشرقية لعدة أسباب من أهمها الاستعمار الذي رزح الشرق تحت نيره فترات طويلة من قبل مستعمرين و غزاة و ( فاتحين ) شتى ، ما بين صراعات لأمراء المماليك في مصر و الشام و اكتساح عثماني و احتلال أوربي ...إلخ ، مما ساهم في تكريس طباع التواكل و القدرية و اللجوء للغيبيات في أسوأ صورها ممثلة في الاستعانة بالجن و العفاريت و التبرك بأضرحة الموتى و اللجوء للسحرة و اعتبار البلهاء و المعاقين ذهنيا من أولياء الله الصالحين . كل هذا التراث الأسود طغى للأسف على مفهوم عوالم القوى الغيبية و طبعها بطابعه في أذهان القطاع الأكبر من أبناء الشرق ، مما جعل الباحث فيها مجبرا دائما على شروح مطولة يوضح فيها الفرق بين ما يبحث فيه من علوم رصينة و بين ألاعيب الحواة و الدجالين .
و يثور الآن سؤال هام لابد منه و هو : هل البحث في العلوم الماورائية مما يتعارض مع مفهوم الغيب كما يعنيه الدين ؟
الإجابة المباشرة على هذا السؤال تتضح من الحديث الشريف الذي ورد بصحيح البخاري و الذي نصه :
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( مفاتح الغيب خمس : إن الله عنده علم الساعة ، و ينزل الغيث ، و يعلم ما في الأرحام ، و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، و ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير )) ( 1 ) .
هذه الأصول الخمسة للغيبيات التي لا يجوز أن يدعي أحد المقدرة على الإحاطة بها أو التنبؤ بما سوف يكون من شأنها ، و هي كما نرى لا تدخل من قريب أو بعيد في نطاق ما تنوي هذه السلسلة أن تبحثه ، فنحن لا ننوي – معاذ الله – أن نصدر مصنفات تسفه من قيمة العقل أو تتعارض مع أصل من أصول العقيدة ، إنما الهدف الأساسي كما سبق و أشرت هو الأخذ بطرف من أسرار علوم و فلسفات اكتشفت في أسرار الكون قوانين أودعها الله فيه . هذه القوانين انتبه إليها عباقرة من الأسلاف الذين ساهموا في بعث و ازدهار الحضارة عبر العصور ، بعضها اندثر بفعل الانهيار الدوري المعتاد للحضارات و ترك البعض الآخر بصيصا من الإشارات و الرموز التي كانت بمثابة علامات دالة ساهمت في بعث هذه العلوم و إعادة كشفها من جديد ، و هو الأمر الذي يسير فيه الغرب الآن بخطى حثيثة .
و ربما يلتبس الأمر على البعض نتيجة لاستخدام لفظ " العلوم الغيبية " للإشارة لهذه العلوم ، مما ينتج سوء الفهم و الخلط بينها و بين مفهوم " الغيب الديني " في ذهن القارئ ، و لتوضيح ذلك أقول أن ذلك من قبيل الدلالة الاصطلاحية ، بمعنى أن كلمة " غيبية " هي عبارة عن مصطلح يطلقه البعض على هذه العلوم نظرا لطبيعتها " الخفية " أو " الكامنة " ، و نظرا لأن قوانينها و معادلاتها لم تكتشف كاملة بعد ، فهي ما زالت في رحم الغيب .
و المشتغلون بالبحوث الأكاديمية يعلمون معنى المصطلح تماما ، فالكلمة الواحدة قد يكون لها معنى ما في القاموس ثم تستخدم استخداما دارجا مغاير في المعنى من قبل رجل الشارع ، ثم قد تستخدم استخداما ثالثا مختلف تماما كمصطلح دال في علم من العلوم ، و هذا هو ما ينطبق تماما على لفظة " غيبية " و التي تستخدم كمصطلح من قبل علماء الدين يدل على ما سبقت الإشارة إليه من علم يختص الله سبحانه و تعالى بمعرفته و يقصره على ذاته الإلهية و لا يشرك فيه أحدا من عباده .
و للابتعاد عن هذا الخلط تماما فسوف أستخدم اصطلاح " العلوم الماورائية " للدلالة على ما أعنيه من هذه العلوم ذات المجلات الخفية من الطاقة ، كما أفضل استخدام مصطلح " القوى الخفية " رغم ما يحويه من ظلال مثيرة للخيال .
ثم إن القصص القرآني لا ينفي أبدا إمكانية أن يتمتع بعض البشر بميزات و قدرات تمكنهم من اختراق عوالم القوى الخفية و اجتياز مسالكها الوعرة ، بل إن بعض الآيات تنص على ذلك صراحة ، فيقول سبحانه و تعالى :
(( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما (65) قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (66) قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67) و كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68) قال ستجدني إن شاء الله صابرا و لا أعصي لك أمرا (69) قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا (70) )) . الكهف 65- 70 .
فالآيات الكريمة السابقة تحدثنا عن لقاء سيدنا " موسى " عليه السلام بأحد الناس الذين وصفهم الله تعالى بوصف [ عبدا من عبادنا ] ، فلم تنص الآيات صراحة على أنه رسول أو نبي ، بل هو إنسان كغيره ، غاية الأمر أن الله تعالى آتاه [ رحمة ] و [ علمه من لدنه علما ] ، هذه
(1) صحيح البخاري ، دار الكتاب اللبناني ، الجزء الرابع ، ص 71 و أيضا ص 99 .
الرحمة و هذا العلم جعلاه يستحق و بجدارة أن يقوم بدور الأستاذ لواحد من أكبر الأنبياء و الرسل و هو " موسى " عليه السلام ، بل و يستأذنه " موسى " في الصحبة فيشترط عليه ذلك العالم شروطا حتى يصحبه ، ثم يكون من أمرهما ما تنص عليه باقي الآيات من أحداث يتمكن فيها هذا العبد العالم أن يهتك أسرارا ماورائية ، يتصرف بموجبها تصرفات قد تبدو للوهلة الأولى أنها غير عقلانية ، و ذلك طبقا لحكم الحواس العادية و ( التفكير المنطقي ) ، ثم نكتشف في ختام الآيات أنها هي عين العقل و عين المنطق طبقا للقدرات التي أتيحت لهذا العبد العالم و التي تصرف بناء عليها .
و الكتب المقدسة على اختلافها تحتشد بمئات من الآيات و النصوص التي تصرح بأن الكون غير مقصور على هذا النطاق الضئيل الذي تتعامل معه حواس البشر بشكل اعتيادي ، بل إنها تدل صراحة في أكثر من موضع على أن هناك عوالم متعددة ذات قوانين و طاقات و ظواهر و أحداث تتجاوز قدرة التصور البشري .
و الآيات سالفة الذكر كثيرة لدرجة أن حصرها يخرج بنا عن نطاق هذا الكتاب و موضوعه ، و لكن نتوقف هنا عند إحدى آيات سورة الذاريات و التي تصرح :
(( و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون )) الذاريات (49) .
و هو الأمر الذي يسري على كل شيء في الكون بما فيها المادة ذاتها ، فالكون المادي يتضمن الطاقة بشتى صورها المعلومة و التي ما زالت في طي المجهول بنفس الشكل الذي يتضمن به المادة بصورها و عناصرها المختلفة ، فالعالم إذن عالمان أو زوجان : عالم المادة و عالم الطاقة .
1 comment:
Casinos Near Me (Google Maps) - MapYRO
Find 부산광역 출장마사지 Casinos Near Me 하남 출장안마 (Google 안양 출장안마 Maps) location map 이천 출장안마 from 1up13 votes, 바카라 규칙 1, Casino: Barona Casino, 814 South Center Dr, Uncasville, CT.
Post a Comment