عام 1896
1
تحسست "ستوتة" ملمس الطلاء الجيري المتشقق بأناملها المصبوغة بحناء بهت لونها. أخذت تمر بكفيها على الجدار الطيني المغطى بطبقة من الكلس المتآكل التي كشفت عنها شقوق الطلاء، لتبين حفرا و أخاديد و نتوءات تغزل وشما عتيقا على الحائط الخارجي لضريح "سيدي بسيسة".
كان الضريح يقبع متوحدا، محاطا بفضاء شاسع من الأرض المنزرعة التي لا يقطع استرسالها سوى خط مرتعش رمادي اللون، يرسم على استحياء هياكل البيوت الطينية شرقي البلد، يقابله من الغرب - و بنفس القدر من البعد الشاسع عن الضريح – نقاط بيضاء متراصة، تبدو لعين الغريب كتجمعات أبي قردان على رؤوس الحقول، بينما تتوجه إليها عيون أهل البلد حين تحن الذكرى للراحلين إلى غير رجعة و يتدفق الوفاء على الألسنة مشفوعا بقراءة الفاتحة.
المعلم الوحيد الذي ارتبط بضريح "سيدي بسيسة" و اقترب منه إلى درجة اعتباره جزءا ممتدا من كيانه كان هو بئر الساقية العتيقة التي تقع على مرمى حجر من الضريح، و التي توقفت منذ زمن غير معلوم عن ممارسة دورها الاعتيادي في سقيا الأرض، متحولة إلى سبيل موقوف على ضريح "سيدي بسيسة" و زواره فاكتسبت مع الزمن لقب "ساقية سيدي بسيسة".
لم يكن أحد من أهل البلد يعلم متى بني ضريح "سيدي بسيسة" و لم يكن أحد يعلم من هو "سيدي بسيسة " على وجه التحقيق، و برغم تعدد الأذهان المعمرة التي تحكي قصصا عن أصل كل شيء في البلد، و برغم الذخيرة الجاهزة دوما لتفسير كل شيء في الكون – بداية من كيفية الخلق نفسها و انتهاء بأسباب إنفاذ إيطاليا لمن ينوب عنها في عقد وفاق الصلح مع النجاشي "منيلك" على أثر الحروب الأخيرة – إلا أن الجميع قد عجزوا عن إبداء أية تفسيرات بشأن الأسباب التي دفعت الأجداد لتبجيل "سيدي بسيسة" على هذا النحو، و تنصيبه وليا حاميا للبلد و واسطة عقد لتخطيطها المعماري الدنيوي و الأخروي، و مركزا عتيدا لاستقبال شكاوى أهل البلد و مخاوفهم و آمالهم المشكوك بتحققها.
غاية ما يعرفه الجميع أن ضريح "سيدي بسيسة" هو مستقر أقوى الأسرار الروحية في زمام البلد و القرى المحيطة بها؛ إلى الحد الذي جعل من مولده السنوي موعدا منتظما لالتقاء الآلاف من سكان البلد و الوافدين عليها، حاملين نذورا تعكس تباينات طبقية واسعة المدى. و الأغلب أن هذه الأسرار الروحية هي ذاتها التي تسببت في منع حكماء البلد من تلفيق أية حكايات مكذوبة عن أصل "سيدي بسيسة" خوفا من بطشه، مكتفين بالحكايات المتواترة عن معجزاته و كراماته التي خبرها الكثيرون على مر السنين، و الأغلب أيضا أنها هي السبب في عدم الاجتراء على تناول المبنى الصغير للضريح بالتعديل أو الإضافة – برغم سخاء النذور و الهبات – إلا في حالات الضرورة القصوى التي يفرضها تصدع واضح في أحد الجدران أو انهيار أجزاء من القبة الخضراء بفعل توالي الشمس و الأمطار أو انهيار قمة بئر الساقية لأي سبب من الأسباب، فاقتصرت علامات السخاء على تكدس أفخر الأنواع من أوشحة الحرير الأخضر و الأبيض التي تكسو القبر بادية للعيان من شبابيك الضريح الأربع، محاطة بعشرات المصاحف الفاخرة الواردة من رحلات الحج التي لا يستطيع سوى الأغنياء إليها سبيلا، مسجلين امتنانهم بالعودة من الرحلة الخطيرة التي كانت تتم على ظهور الجمال. إلا أن أفخر الذخائر التي تمتع بها ضريح "سيدي بسيسة" و أكثرها قداسة كانت قطعة صغيرة من كسوة الكعبة، قدمها "حيدر نامق باشا" حين أعيته الحيلة في شفاء الشلل الذي ألم بنصفه الأيسر، فنصحه البعض بزيارة "سيدي بسيسة" و النذر له و الاغتسال من ماء الساقية. و برغم وفاة "حيدر نامق باشا" بعد فترة وجيزة من زيارته لضريح "سيدي بسيسة" إلا أن قطعة الكسوة المقدسة ظلت دليلا دامغا على تفوق "سيدي بسيسة" على أقرانه من أولياء القرى المجاورة، و مثارا لفخر البلد و عنوانا على قيمتها و ثقلها الاعتباري بين هذه القرى.
طافت "ستوتة" بجدران الضريح و هي تواصل تحسس الملمس الجيري ذي الأخاديد، فأخذت تتداعى على ذهنها ذكريات طفولتها حين كانت تداعب جدها الطاعن في السن، متحسسة الأخاديد العميقة في تجاعيد وجهه و هو يحكي لها قصصا أسطورية عن كرامات و معجزات "سيدي بسيسة" التي جبرت خواطر المكسورين و الحزانى.
كانت "ستوتة" و هي تطوف بالضريح ملتصقة بجداره المتآكل تتقلب في أحاسيس شتى من الجزع اليائس و الأمل الواثق في كرامات الولي العتيد، و مع تكرار طوافها الملتصق بالبناء المتآكل أتت عليها لحظة من الزمن غير محددة الطول، فقدت فيها اتصالها بكل ما يحيط بها من فضاء البلد الشاسع بمزروعاته الممتدة، فلم تعد تشعر بخفق الهواء في ثنايا حبرتها السوداء و لا بصوت الحدأة التي تحوم قريبا في انتظار سنوح فرصة القنص. كل ما كانت تعيه حواس "ستوتة" هو ملمس الشقوق الطينية، و توالي التغيرات في انحناء و بروز جدار الضريح و تعاقب نوبات الأمل بخروجها إلى الجانب المضيء المواجه للشمس من الضريح، وانقضاض نوبات اليأس بدخولها في منطقة الظل بالجانب الآخر.
- و النبي يا "سيدي بسيسة"، و حياة مقامك الطاهر و النبي.... تجبر بخاطري و ما تردنيش مكسورة.... و النبي يا "سيدي بسيسة" و النبي، حتة عيل يبرد ناري و يثبت قدمي في دار جوزي و يكسف عوازلي.
- و النبي يا "سيدي بسيسة"، و حياة الكسوة الطاهرة اللي مشرفة مقامك الطاهر... حتة عيل و أنا قابلة به و لو يكون فيه علة، كله حلو منك يا "سيدي بسيسة" و لو يكون أعمى و لو يكون أعرج.... و النبي يا "سيدي بسيسة".
- و رحمة النبي "محمد" يا "سيدي بسيسة" إن ربنا جبر بخاطري بولد لاسميه "بسيسة" على إسمك و اوهبه لخدمة القرآن و العلم الشرعي... و النبي يا "سيدي بسيسة".
صرخت الحدأة و هي تنقض على أحد جرذان الحقل، انتفضت "ستوتة" لترمق الحدأة و للحظة خاطفة خيل إليها أنها رسمت بامتداد جناحيها الخافقين شكلا مصغرا لحبرتها السوداء، و تناهى إلى سمعها صرير عتيق من أخشاب الساقية، غير أنه بدا لدهشتها كما لو كان صادرا من داخل الضريح نفسه.
2
خلع "محمد الزغل" جبته و علقها على المشجب الخشبي المخروط المنتصب في ركن الغرفة، و في نفس المكان المعتاد بجوارها علق عصاته العوجاء من زاوية يدها العاجية الأنيقة و أتبعها بتعليق طربوشه المكوي. تقدمت "ستوتة" في مزيج من الدلال و الخفر لتساعده في ارتداء الجلباب، و قد اطمأنت إلى أنها لم تغفل شيئا من الترتيبات الدقيقة الواجبة الاتباع طبقا لنصائح كل من أمها و "أم زهر" قابلة البلد؛ فقد ملأت قلة "محمد الزغل" بماء الساقية المبروكة و حرصت على أن ترش منه تحت السرير و حوله – بعد إضافة أشياء أخرى أعطتها إياها "أم زهر" – كما حرصت على تضميخ جسدها بعطر فاخر، بعد أن استدعت "خيرات" البلانة لتنتف لها شعر جسدها بأكمله و تعنى بتخطيط حواجبها و تصفيف شعرها على نحو ما يصففون شعور العرائس في ليالي الزفاف.
كان "محمد الزغل" معدودا من بين وجهاء البلد و كبار أثرياءها، و كان لديه من المبررات ما يكفل له مكانا بارزا بين هذه النخبة النادرة؛ فهو وريث واحدة من أعرق عائلات البلد و أشرفها و أكثرها حيازة لمساحات الأرض المنزرعة في عموم الجوار، و هي العائلة التي نبغ من بين رجالها عدد من أنجب شخصيات البلد و أوفرهم حظا من الاحترام و سداد الرأي إلى الحد الذي كادت معه تحتكر تداول منصبي العمدة و شيخ البلد بين أجيالها المتعاقبة.
و إلى هذا فقد كانت ل"محمد الزغل" مواهبه الخاصة التي لم تكفل له الحفاظ على مكانته كوارث لتراث عتيد فقط، و إنما مهدت له الطريق لإضافة إسهاماته الخاصة إلى مآثر ذلك التراث؛ فكان "محمد الزغل" هو أول الرواد اللذين قاموا بنقل البلد خطوة على طريق الميكنة الحديثة، و ذلك حين شيد أول وابور للطحين في عموم المنطقة بأسرها، ناقلا أهلها من اتباع النمط الفردي في طحن الغلال منزليا بواسطة الرحى الحجرية إلى نمط جماعي احتفالي الطابع تتولى فيه طاحونة الوابور العملاقة طحن الغلال على نحو أيسر و أكثر سرعة بواسطة آلتها العجيبة التي تدار بواسطة البغال.
و لم يكتف "محمد الزغل" بالعكوف على الجانب المالي من حياته الحافلة، فكانت له جوانبه المتفردة التي زادت من لمعان شخصيته بين أهل البلد و ساهمت في ترسيخ وقارها على صغر سنه؛ حيث كان "محمد الزغل" أكثر أهل البلد ترددا على العاصمة و معرفة بأخبارها و رجالها و من أكثرهم توطيدا لأركان الصداقات و المصالح مع وجهاء المحروسة، إلى الحد الذي أتاح له شرف الانضمام إلى وفد المهنئين الموقعين في دفتر تشريفات السراي عقب عودة الجناب الخديوي "عباس باشا حلمي الثاني" من زيارة الأستانة، و ذلك بمناسبة حصول جنابه العالي على نيشان "خاندان آل عثمان" الذي قلده إياه جلالة مولانا السلطان.
و قد أتاحت هذه التركيبة المتفردة ل"محمد الزغل" دراية و إحاطة شاملتين بدقائق و أسرار الأحداث داخل القطر و خارجه، فكان رجال البلد يلتفون حوله في مجلسه المشهور يحتسون أكواب الحلبة المطحونة و يستمعون إليه و قد علت وجوههم الدهشة و هو يصول و يجول شارحا لهم أسرار العلاقة العائلية بين ملكة إنجلترا و قيصر الروس و إمبراطور ألمانيا، و كيف أن البرنسيس "فيكتوريا" ابنة ملكة الإنجليز قد تزوجت من "فريدريك وليم" إمبراطور ألمانيا السابق الذي خلف والده "وليم الأول" على الملك سنة 1888 و توفي في تلك السنة و خلفه ابنه "وليم الثاني" الإمبراطور الحالي، و كيف أن إمبراطور ألمانيا الحالي يكون تبعا لذلك حفيدا لملكة إنجلترا. ثم يأتي دور القهوة المحوجة و تزداد سخونة المجلس و ينجلي "محمد الزغل" و يتفصد جبينه عرقا و هو يشرح كيف أن البرنس "أوف ويلس" ابن الملكة و ولي عهدها قد تزوج من البرنسيس "ألكساندره" ابنة "كريستيان" التاسع ملك الدنيمارك و هي شقيقة البرنسيس "ماريا دغمار" أرملة القيصر "اسكندر الثالث" والد القيصر الحالي، و كيف أن ذلك يؤدي إلى أن يصبح البرنس "أوف ويلس" و إمبراطر روسيا السابق عديلين و أن يصبح الإمبراطور "نقولا" قيصر الروس الحالي ابن بنت عم ولي عهد إنجلترا.
و حين يأتي دور السكر المكرر بماء الورد يباغتهم "محمد الزغل" بالتصريح الخطير الذي حمله بين جوانحه سرا ثقيلا كأحد المؤتمنين على خبايا البلاطات الملكية؛ فيهمس بصوت متوتر أقرب إلى الفحيح بحقيقة أن البرنس "ألفريد" دوق "أيدنبرج" ابن ملكة الإنجليز متزوج من الغراندوقة "ماريا" بنت القيصر "اسكندر" الثاني، فتعقد الدهشة ألسنة جميع الحاضرين بالمجلس و يستشعر كل منهم برودة الشراب و هي تسري في حلقه، و تأخذهم نشوة مجهولة المصدر و كأنما انزاح من فوق صدورهم هم ثقيل أو ثبتت أمام نواظرهم حقيقة كانوا يشكون بها دون أن يملكوا عليها دليلا. ثم تطول بهم لحظات من الصمت الذي يحافظ جميعهم على قدسيته و هم يستمتعون بممارسة الشعور بالراحة النفسية العجيبة التي انتابتهم بعد أن أيقنوا تمام اليقين أنهم قد أدركوا جانبا من أسرار الحقيقة الكونية.
و كانت "ستوتة" تتابع تفاصيل المجلس الأسبوعي من مكمنها خلف شباك غرفة النوم – حريصة على ألا يلهيها ذلك عن مراقبة الخدم مراقبة صارمة خلال تتابعهم المحسوب و هم يحملون أكواب المشروبات و صواني الطعام – و قد أخذها الانبهار كل مأخذ، على الرغم من سماعها لأغلب هذه الحكايات و الأسرار مرات متعددة؛ حين كان "محمد الزغل" يعود إليها من رحلاته للعاصمة مبهورا منتشيا و هو يقص عليها تفاصيل مغامراته الأسطورية، حريصا على تنبيهها من آن لآخر إلى حقيقة كونها أول شخص يعلم بهذه الأسرار و بضرورة كتمانها لما فيها من مساس حميم بأسرة الجناب الخديوي العالي، و بأن وضعها كزوجة له يفرض عليها أن تكون بئرا لا قرار لها لتلك الأسرار الخطيرة. و كانت "ستوتة" تحرص على العمل وفق هذه الوصية بإصرار مستميت إلى درجة أنها لم تنتبه و لو لمرة واحدة إلى أن ما كان يقوم به "محمد الزغل" في مجلسه الأسبوعي يتنافى تماما مع هذه الوصية، و إلى درجة أنها نجحت في مقاومة نوازعها الفطرية كأنثى حين كانت تجمعها ببعض قريباتها مجالس النميمة و الفضفضة، ربما لتثبت ل"محمد الزغل" أنها تملك من الفضائل – برغم تأخرها المقلق في الإنجاب – ما يجعلها جديرة بأن تكون زوجة مخلصة له و مقدرة لدوره الخطير الذي يلعبه في معاونة الجناب الخديوي في سياسة شؤون الرعية.
و لم يكن يرد على خاطر "ستوتة" و لو على سبيل الشك العابر أن كثيرا من سفريات "محمد الزغل" المتكررة للمحروسة – تاركا الإشراف المؤقت على أملاكه لإدارة "سليم أفندي زاكي كوهين" – إنما هي زيارات للتردد على مواطن الأنس و الفرفشة و بيوت البسط و الهنكرة، إلا أن ثقتها العمياء في "محمد الزغل" إلى جانب ما يتمتع به من مكانة تقارب القداسة في البلد لم يدعاها تجرؤ على التخيل و لو للحظة واحدة أنه بسبيله للتنفيس عن سجيته المخبوءة التي لا يعلم أحد عنها شيئا، و التي يبرع في دفنها تحت ركام الوقار و الهيبة بنفس السهولة التي يدس بها ساعته في جيب الصدار. غير أن "محمد الزغل" – و الحق يقال – لم يكن ليقصر في حق "ستوتة" من حيث تجشم العناء في ابتكار الأسباب القوية و الحجج المتقنة التي تبرر زياراته المتكررة للمحروسة، على الرغم من أنها – حتى و لو علمت بالأمر برمته – لم تكن لتجرؤ هي أو أي من ذويها على مجرد إبداء الامتعاض؛ إلا أن شيئا في نفس "محمد الزغل" – ربما يقينه بإخلاصها الأعمى أو ربما هواجس غير محددة عن عاطفة تجاهها – جعله دوما حريصا على التأكد من اقتناع "ستوتة" بأسباب سفرياته التي تمتد لأيام، فمن القيام بواجب التهنئة بعيد "الجلوس الشاهاني" إلى واجب استقبال الجناب العالي من رحلة "زوريخ"، و من القيام بواجب توديع الحملة المصرية المتوجهة لفتح السودان إلى القيام بواجب العزاء في المغفور له سلطان "زنجبار" الذي اختطفته المنون و هو لم يتجاوز الأربعين من عمره.
3
وقفت "ستوتة" بصحن الدار لتودع "محمد الزغل" و هو بسبيله للمحروسة للقيام بأمور جسام؛ فهي المرة الأولى التي يتعين عليه فيها القيام بواجب العزاء في ثلاثة من وجهاء معارفه دفعة واحدة، السبب الذي جعله يحرص على الظهور متجهما طيلة الوقت و شارحا للجميع مدى عظم المصاب الأليم الذي ألم بالقوم حين أنشبت المنية أظفارها في الشاب المهذب المرحوم "يوسف شكور" ابن أخي حضرة الفاضل عزتلو أفندم "ملحم بك شكور" وكيل إدارة السردارية، و ذلك بعد أن أصابته فركة وبائية صاعقة و هو يخدم بالحدود، مما يحتم القيام بواجب العزاء فيه ثم التوجه لمواساة حضرة الفاضل الهمام "أنطون بك نيكوديموس" لوفاة والدته المرحومة "وردة هانم نيكوديموس". و ليت الأمر يقف عند هذا الحد، إلا أن الأقدار تشاء إلا أن تفجع صديقه الفاضل عزتلو "نجيب بك يوسف" ناظر قلم عموم الإدارة بمصلحة قومسيون الأراضي الأميرية بمصر في والده المرحوم سعادة "يوسف باشا الأنطاكي"، الأمر الذي يستدعي غياب أسبوع على الأقل للتمكن من القيام بالواجب على النحو الأصولي.
أسندت "ستوتة " ظهرها بيدها ثانية جذعها للخلف و مريحة يدها الأخرى على بطنها المنتفخ من أثر الحمل؛ فقد فعلت زيارة "سيدي بسيسة" فعلها و ظهرت البشائر منذ شهور، مما جعل "محمد الزغل" في حالة من السعادة المكتومة التي خففت قليلا من جهامة سمته الوقور، إلى درجة أنه بدأ في ممازحة مستخدمه "سليم أفندي زاكي كوهين" بشكل منتظم، مبديا دهشته من وجود البقعة الزيتية العجيبة التي تستقر بشكل أبدي على الجانب الأيسر لطربوش "سليم أفندي زاكي كوهين" و متسائلا عن مصدرها الغامض الذي يكفل لها أن تظل لامعة دوما كما لو كانت قد لطخت الطربوش لتوها.
غمغم "سليم أفندي زاكي كوهين" في نبرة خفيضة مطلقا عدة أصوات مبهمة مضغمة، إلا أن طريقة تتابعها و تعبيرات وجهه و إشارات يديه أثناء النطق بها قد أفادت بما معناه أنه يتمنى السلامة و الغنيمة ل"محمد الزغل" في رحلته المقبلة.
كان "سليم أفندي زاكي كوهين" نموذجا حيا شارحا للتركيبة الفريدة التي سمحت لليهود بالتعايش في كافة البيئات و التأقلم مع الظروف المحيطة بهم أيا كان نوعها. كان "سليم أفندي زاكي كوهين" هو ممثل الجيل الثاني من أفراد عائلة يهودية شرقية استوطنت البلد و استطاعت بما تميز به أفرادها من مهارات الوساطة و إمساك الدفاتر و الإلمام بدقائق الإجراءات القانونية أن تحوز ثقة الأثرياء و أصحاب النفوذ إلى حد تعيين عدد منهم كوكلاء و مندوبين و أمناء سر و ملاحظين لأراضي و مصالح عدد كبير من هؤلاء الأثرياء و الوجهاء، و من بينهم عائلة "الزغل" بداية من عهد "عبد اللطيف الزغل الكبير" الجد المباشر ل"محمد الزغل".
و قد ورث " سليم أفندي زاكي كوهين" وظيفته في متابعة وابور الطحين و الأرض عن والده الراحل "زاكي كوهين ساسورة"، أحد عباقرة هذه الأسرة و أكثرهم اقترابا من عقول وقلوب وجهاء البلد بما أوتي من مواهب و صفات ساهمت في منحه ثقة غير محدودة، و ما زال الجميع يتحاكون بمهارته المذهلة في قراءة القرآن الكريم تجويدا و تلاوة تضارع مشاهير القراء في زمام البلد، إلى الحد الذي كان من المعتاد معه أن يقوم "زاكي ساسورة" بقراءة ربع كامل في مآتم وجهاء البلد على سبيل المجاملة.
و برغم أن "سليم أفندي زاكي كوهين" لم يرث عن والده هذه الموهبة العجيبة إلا أنه انفرد بمواهبه الخاصة التي كفلت له أن يصير امتدادا للوالد العبقري و وارثا لمكانته في البلد؛ فكان حجة لا تبارى في عويص المسائل القانونية و جسيم المشاكل التجارية، ملما بأسرار حركة الأوراق المالية التي كانت له في مضمارها صولات و جولات قيضت له أن يثبت جدارته كوسيط نابه لمخدومه "محمد الزغل" خلال تفشي وباء الكوليرا بالعاصمة؛ حيث هبطت أسعار الأوراق المالية بسبب رغبة حامليها في بيعها لاستعمال أثمانها في الفرار، فكثر البائعون و عز المشترون في حين أخذت بيوت المال في اتباع أسلوبها المعتاد في الشراء بأبخس الأثمان، و هنا كان "سليم أفندي زاكي كوهين" جاهزا للانقضاض على العشرات من راغبي البيع، حريصا في ذات الوقت على شراء عدد من الأوراق التي أظهرت ثباتا في السعر مثل "الموحد" و "الممتاز" و "الدومين"، حتى تجمعت لدى "محمد الزغل" حصيلة وافرة من الأوراق المالية التي عاودت قيمتها الارتفاع - خاصة تلك التي أظهرت ثباتا في السعر - بعد انتهاء غمة الوباء فسارع "سليم أفندي زاكي كوهين" إلى طرحها للبيع محققا ل"محمد الزغل" هامشا معتبرا من الربح دون أدنى مجهود.
إلا أن الأمر الغريب الذي حير عددا كبيرا من الناس و منهم "محمد الزغل" نفسه هو سر إحجام "سليم أفندي زاكي كوهين" عن استخدام هذه المواهب في خدمة مصالحه الشخصية، و اقتصاره على تسخيرها لخدمة الآخرين نظير أجر، غير أن إحساسا عاما بإمكانية صدور ذلك عن طول العهد بلعب دور الوساطة لدى أفراد هذه الأسرة كان سببا كافيا لعدم استرسال الجميع في متابعة البحث عن أسباب أخرى تبرر هذا الحرص على التمسك بحياة الظل.
غير أن الأمر الذي ظل خفيا على جميع من عرفوا "سليم أفندي زاكي كوهين" أثناء حياته، و الذي حرص هو باستماتة على إخفائه ليظل متعته السرية و الجانب المظلم من شخصيته كان متمثلا في ولعه العارم بالتمثيل و الأدب. و لم يكتشف الأمر إلا بعد وفاة "سليم أفندي زاكي كوهين" حين عثر ورثته على عديد من الخطابات و مسودات الرسائل المتبادلة بينه و بين عدد كبير من نجوم "شركة التمثيل الأدبي"، بل إن إحدى مسودات رسائله قد كشفت عن قيامه بترجمة و صياغة رواية "هاملت" الشهيرة لتصير مناسبة و لائقة للعرض من قبل فرقة "جمعية الابتهاج"، كما كشفت نفس الرسالة عن دوره في صياغة الخطاب الحماسي الذي ألقاه حضرة الأصولي الفاضل عزتلو "إسماعيل بك عاصم" في ختام عرض الرواية، و هو الخطاب الذي وجه من خلاله الدعوة للحضور بالاشتراك في مساعدة منكوبي "كريت" مما أدى إلى خروج الناس صائحين مهللين و محطمين في طريقهم لعدد من عواميد الإنارة و حنفيات الحريق، الأمر الذي أدى لإثارة الهلع و إصابة عدد من الناس بالجروح.
و بتفتيش أحد الصناديق المخبئة في الكرار فوجئ الورثة كذلك بعدد من النسخ لكتاب بعنوان "مرشد النحرير الهمام في معرفة أديان العرب قبل الإسلام" من تأليف "سليم أفندي زاكي كوهين" نفسه و من طباعة جريدة "لسان العرب" بالإسكندرية؛ حيث كشف الكتاب عن إلمام عميق ل"سليم أفندي زاكي كوهين" بدقائق و خصائص الأديان الوثنية و السماوية التي سبقت الإسلام في الانتشار و التواجد بجزيرة العرب، و كذلك فهمه العميق لتأثير و تأثر كل منها بالآخر إلى درجة تخصيصه لفصل كامل لملحوظاته الخاصة بتشابه بعض الممارسات و الشعائر الوثنية – من وجهة نظره – بمثيلاتها من الممارسات و الشعائر الخاصة بالديانات السماوية، نافيا و مستنكرا في ختام فصله أن يكون ذلك مدعاة لاعتقاد القارئ أن الأديان السماوية قد تأثرت بهذه الوثنيات أو انتحلتها، و حريصا على دعوة القارئ لوجوب التمسك بإيمانه و عقيدته سواء أكان يهوديا أو مسيحيا أو مسلما.
4
حين قام "محمد الزغل" بإدراج ابنه في دفتر المواليد الموثق بالمحفوظات الخديوية – مؤكدا بذلك وجاهته كأحد أرباب المدنية المعدودين بالبلد التي لم يكن من المعتاد بها اتباع مثل هذا الإجراء – لم يفته أن يفي بنذر "ستوتة" التي استحلفته بكل غال لديه أن يبر بنذرها ل"سيدي بسيسة" حين وعدته أن تطلق اسمه على وليدها لو أتى ذكرا، و إلا كانت غضبة "سيدي بسيسة" عارمة و ربما آذت المولود الذي أتى بعد طول انتظار، غير أن "محمد الزغل" أراد أن يحتال على الأمر كي يخفف من وقع الاسم غير الشائع؛ فأطلق على المولود اسما مركبا هو "صادق بسيسة" مثبتا إياه في صفحة المواليد بتاريخ 15 سبتمبر (أيلول) سنة 1896 إفرنجي الموافق 7 ربيع الثاني سنة 1314 هجري في اليوم السادس من أيام النسيء سنة 1612 قبطي.
و منذ يومه الأول عملت "ستوتة" على تحصين وليدها "صادق بسيسة" تحصينا فائقا؛ مستعينة في ذلك بترسانة كاملة من الأحجبة و التمائم و التعاويذ و لم يفتها هي و أمها و "أم زهر" القابلة أن يكون الحمام الأول للرضيع بعد سبوعه من ماء الساقية المبروكة، و قد أصرت "ستوتة" على أن يكون أول خروج لها من الدار بعد طهرها من النفاس لزيارة ضريح "سيدي بسيسة" حاملة معها الرضيع الغالي مقمطا في لفائفه الحصينة، و كأنها تعلن للولي العتيد أن معروفه السابغ سيظل يقابل بالامتنان ليس من قبلها فقط و إنما أيضا من قبل المولود الذي كان أول عهد له بالدنيا هو زيارة ضريح سميه المبارك.
و في ذلك العام توفي الفيلسوف الألماني "فردريك انجلز" أحد مشاهير المفكرين والفلاسفة الاشتراكيين في العالم وهو صديق "كارل ماركس" الحميم ومساعده في نشر المذهب كما أنه ظل ينفق على "ماركس" وعائلته حتى مات، من مؤلفاته : أصل الأسرة ، الخاصة والدولة ، الثنائية في الطبيعة ، الاشتراكية الخرافية والاشتراكية العلمية.
و فيه وضعت الدول الكبرى نظاما جديدا لجزيرة كريت اليونانية بحيث يحكمها دائما حاكم مسيحي وقد وافقت تركيا على ذلك وكانت الدولة العثمانية قد وقعت معاهدة في 5 من سبتمبر 1669 من 18 مادة تم بمقتضاها انتقال قلعة "كاندية" الحصينة في جزيرة كريت إلى الدولة العثمانية، إضافة إلى 1100 مدفع كانوا في القلعة، وأن تحصل تركيا على كامل جزيرة كريت وفي الحرب العالمية الثانية سارعت القوات النازية إلى احتلال جزيرة كريت في مايو عام 1941.
و فيه خسرت زنجبار الحرب أمام إنجلترا في حرب لم تستغرق أكثر من 38 دقيقة.
و فيه تم تصميم أول خريطة للأحوال الجوية.
و فيه بدأ تشغيل أول مركبة ترام بالقاهرة.
و فيه ولدت ملكة كتابة الروايات البوليسية في العالم "أجاثا كريستي".
و فيه تم اكتشاف النشاط الإشعاعي الطبيعي؛ وقد اكتشف هذا الفرنسي ”هنري بيكيريل" في باريس عام بينما كان يجري بعض التجارب على اليورانيوم. حيث قام بوضع عينة على فيلم حساس داخل غلافه. وكم كانت دهشته عند تحميض الفيلم عندما وجد صورة العينة بحدودها مطبوعة على الفيلم.
و فيه توفي السيد "عبد الله النديم" خطيب الثورة العرابية عن 53 سنة.
و فيه وفاة المخترع السويدي "الفريد نوبل".
1
تحسست "ستوتة" ملمس الطلاء الجيري المتشقق بأناملها المصبوغة بحناء بهت لونها. أخذت تمر بكفيها على الجدار الطيني المغطى بطبقة من الكلس المتآكل التي كشفت عنها شقوق الطلاء، لتبين حفرا و أخاديد و نتوءات تغزل وشما عتيقا على الحائط الخارجي لضريح "سيدي بسيسة".
كان الضريح يقبع متوحدا، محاطا بفضاء شاسع من الأرض المنزرعة التي لا يقطع استرسالها سوى خط مرتعش رمادي اللون، يرسم على استحياء هياكل البيوت الطينية شرقي البلد، يقابله من الغرب - و بنفس القدر من البعد الشاسع عن الضريح – نقاط بيضاء متراصة، تبدو لعين الغريب كتجمعات أبي قردان على رؤوس الحقول، بينما تتوجه إليها عيون أهل البلد حين تحن الذكرى للراحلين إلى غير رجعة و يتدفق الوفاء على الألسنة مشفوعا بقراءة الفاتحة.
المعلم الوحيد الذي ارتبط بضريح "سيدي بسيسة" و اقترب منه إلى درجة اعتباره جزءا ممتدا من كيانه كان هو بئر الساقية العتيقة التي تقع على مرمى حجر من الضريح، و التي توقفت منذ زمن غير معلوم عن ممارسة دورها الاعتيادي في سقيا الأرض، متحولة إلى سبيل موقوف على ضريح "سيدي بسيسة" و زواره فاكتسبت مع الزمن لقب "ساقية سيدي بسيسة".
لم يكن أحد من أهل البلد يعلم متى بني ضريح "سيدي بسيسة" و لم يكن أحد يعلم من هو "سيدي بسيسة " على وجه التحقيق، و برغم تعدد الأذهان المعمرة التي تحكي قصصا عن أصل كل شيء في البلد، و برغم الذخيرة الجاهزة دوما لتفسير كل شيء في الكون – بداية من كيفية الخلق نفسها و انتهاء بأسباب إنفاذ إيطاليا لمن ينوب عنها في عقد وفاق الصلح مع النجاشي "منيلك" على أثر الحروب الأخيرة – إلا أن الجميع قد عجزوا عن إبداء أية تفسيرات بشأن الأسباب التي دفعت الأجداد لتبجيل "سيدي بسيسة" على هذا النحو، و تنصيبه وليا حاميا للبلد و واسطة عقد لتخطيطها المعماري الدنيوي و الأخروي، و مركزا عتيدا لاستقبال شكاوى أهل البلد و مخاوفهم و آمالهم المشكوك بتحققها.
غاية ما يعرفه الجميع أن ضريح "سيدي بسيسة" هو مستقر أقوى الأسرار الروحية في زمام البلد و القرى المحيطة بها؛ إلى الحد الذي جعل من مولده السنوي موعدا منتظما لالتقاء الآلاف من سكان البلد و الوافدين عليها، حاملين نذورا تعكس تباينات طبقية واسعة المدى. و الأغلب أن هذه الأسرار الروحية هي ذاتها التي تسببت في منع حكماء البلد من تلفيق أية حكايات مكذوبة عن أصل "سيدي بسيسة" خوفا من بطشه، مكتفين بالحكايات المتواترة عن معجزاته و كراماته التي خبرها الكثيرون على مر السنين، و الأغلب أيضا أنها هي السبب في عدم الاجتراء على تناول المبنى الصغير للضريح بالتعديل أو الإضافة – برغم سخاء النذور و الهبات – إلا في حالات الضرورة القصوى التي يفرضها تصدع واضح في أحد الجدران أو انهيار أجزاء من القبة الخضراء بفعل توالي الشمس و الأمطار أو انهيار قمة بئر الساقية لأي سبب من الأسباب، فاقتصرت علامات السخاء على تكدس أفخر الأنواع من أوشحة الحرير الأخضر و الأبيض التي تكسو القبر بادية للعيان من شبابيك الضريح الأربع، محاطة بعشرات المصاحف الفاخرة الواردة من رحلات الحج التي لا يستطيع سوى الأغنياء إليها سبيلا، مسجلين امتنانهم بالعودة من الرحلة الخطيرة التي كانت تتم على ظهور الجمال. إلا أن أفخر الذخائر التي تمتع بها ضريح "سيدي بسيسة" و أكثرها قداسة كانت قطعة صغيرة من كسوة الكعبة، قدمها "حيدر نامق باشا" حين أعيته الحيلة في شفاء الشلل الذي ألم بنصفه الأيسر، فنصحه البعض بزيارة "سيدي بسيسة" و النذر له و الاغتسال من ماء الساقية. و برغم وفاة "حيدر نامق باشا" بعد فترة وجيزة من زيارته لضريح "سيدي بسيسة" إلا أن قطعة الكسوة المقدسة ظلت دليلا دامغا على تفوق "سيدي بسيسة" على أقرانه من أولياء القرى المجاورة، و مثارا لفخر البلد و عنوانا على قيمتها و ثقلها الاعتباري بين هذه القرى.
طافت "ستوتة" بجدران الضريح و هي تواصل تحسس الملمس الجيري ذي الأخاديد، فأخذت تتداعى على ذهنها ذكريات طفولتها حين كانت تداعب جدها الطاعن في السن، متحسسة الأخاديد العميقة في تجاعيد وجهه و هو يحكي لها قصصا أسطورية عن كرامات و معجزات "سيدي بسيسة" التي جبرت خواطر المكسورين و الحزانى.
كانت "ستوتة" و هي تطوف بالضريح ملتصقة بجداره المتآكل تتقلب في أحاسيس شتى من الجزع اليائس و الأمل الواثق في كرامات الولي العتيد، و مع تكرار طوافها الملتصق بالبناء المتآكل أتت عليها لحظة من الزمن غير محددة الطول، فقدت فيها اتصالها بكل ما يحيط بها من فضاء البلد الشاسع بمزروعاته الممتدة، فلم تعد تشعر بخفق الهواء في ثنايا حبرتها السوداء و لا بصوت الحدأة التي تحوم قريبا في انتظار سنوح فرصة القنص. كل ما كانت تعيه حواس "ستوتة" هو ملمس الشقوق الطينية، و توالي التغيرات في انحناء و بروز جدار الضريح و تعاقب نوبات الأمل بخروجها إلى الجانب المضيء المواجه للشمس من الضريح، وانقضاض نوبات اليأس بدخولها في منطقة الظل بالجانب الآخر.
- و النبي يا "سيدي بسيسة"، و حياة مقامك الطاهر و النبي.... تجبر بخاطري و ما تردنيش مكسورة.... و النبي يا "سيدي بسيسة" و النبي، حتة عيل يبرد ناري و يثبت قدمي في دار جوزي و يكسف عوازلي.
- و النبي يا "سيدي بسيسة"، و حياة الكسوة الطاهرة اللي مشرفة مقامك الطاهر... حتة عيل و أنا قابلة به و لو يكون فيه علة، كله حلو منك يا "سيدي بسيسة" و لو يكون أعمى و لو يكون أعرج.... و النبي يا "سيدي بسيسة".
- و رحمة النبي "محمد" يا "سيدي بسيسة" إن ربنا جبر بخاطري بولد لاسميه "بسيسة" على إسمك و اوهبه لخدمة القرآن و العلم الشرعي... و النبي يا "سيدي بسيسة".
صرخت الحدأة و هي تنقض على أحد جرذان الحقل، انتفضت "ستوتة" لترمق الحدأة و للحظة خاطفة خيل إليها أنها رسمت بامتداد جناحيها الخافقين شكلا مصغرا لحبرتها السوداء، و تناهى إلى سمعها صرير عتيق من أخشاب الساقية، غير أنه بدا لدهشتها كما لو كان صادرا من داخل الضريح نفسه.
2
خلع "محمد الزغل" جبته و علقها على المشجب الخشبي المخروط المنتصب في ركن الغرفة، و في نفس المكان المعتاد بجوارها علق عصاته العوجاء من زاوية يدها العاجية الأنيقة و أتبعها بتعليق طربوشه المكوي. تقدمت "ستوتة" في مزيج من الدلال و الخفر لتساعده في ارتداء الجلباب، و قد اطمأنت إلى أنها لم تغفل شيئا من الترتيبات الدقيقة الواجبة الاتباع طبقا لنصائح كل من أمها و "أم زهر" قابلة البلد؛ فقد ملأت قلة "محمد الزغل" بماء الساقية المبروكة و حرصت على أن ترش منه تحت السرير و حوله – بعد إضافة أشياء أخرى أعطتها إياها "أم زهر" – كما حرصت على تضميخ جسدها بعطر فاخر، بعد أن استدعت "خيرات" البلانة لتنتف لها شعر جسدها بأكمله و تعنى بتخطيط حواجبها و تصفيف شعرها على نحو ما يصففون شعور العرائس في ليالي الزفاف.
كان "محمد الزغل" معدودا من بين وجهاء البلد و كبار أثرياءها، و كان لديه من المبررات ما يكفل له مكانا بارزا بين هذه النخبة النادرة؛ فهو وريث واحدة من أعرق عائلات البلد و أشرفها و أكثرها حيازة لمساحات الأرض المنزرعة في عموم الجوار، و هي العائلة التي نبغ من بين رجالها عدد من أنجب شخصيات البلد و أوفرهم حظا من الاحترام و سداد الرأي إلى الحد الذي كادت معه تحتكر تداول منصبي العمدة و شيخ البلد بين أجيالها المتعاقبة.
و إلى هذا فقد كانت ل"محمد الزغل" مواهبه الخاصة التي لم تكفل له الحفاظ على مكانته كوارث لتراث عتيد فقط، و إنما مهدت له الطريق لإضافة إسهاماته الخاصة إلى مآثر ذلك التراث؛ فكان "محمد الزغل" هو أول الرواد اللذين قاموا بنقل البلد خطوة على طريق الميكنة الحديثة، و ذلك حين شيد أول وابور للطحين في عموم المنطقة بأسرها، ناقلا أهلها من اتباع النمط الفردي في طحن الغلال منزليا بواسطة الرحى الحجرية إلى نمط جماعي احتفالي الطابع تتولى فيه طاحونة الوابور العملاقة طحن الغلال على نحو أيسر و أكثر سرعة بواسطة آلتها العجيبة التي تدار بواسطة البغال.
و لم يكتف "محمد الزغل" بالعكوف على الجانب المالي من حياته الحافلة، فكانت له جوانبه المتفردة التي زادت من لمعان شخصيته بين أهل البلد و ساهمت في ترسيخ وقارها على صغر سنه؛ حيث كان "محمد الزغل" أكثر أهل البلد ترددا على العاصمة و معرفة بأخبارها و رجالها و من أكثرهم توطيدا لأركان الصداقات و المصالح مع وجهاء المحروسة، إلى الحد الذي أتاح له شرف الانضمام إلى وفد المهنئين الموقعين في دفتر تشريفات السراي عقب عودة الجناب الخديوي "عباس باشا حلمي الثاني" من زيارة الأستانة، و ذلك بمناسبة حصول جنابه العالي على نيشان "خاندان آل عثمان" الذي قلده إياه جلالة مولانا السلطان.
و قد أتاحت هذه التركيبة المتفردة ل"محمد الزغل" دراية و إحاطة شاملتين بدقائق و أسرار الأحداث داخل القطر و خارجه، فكان رجال البلد يلتفون حوله في مجلسه المشهور يحتسون أكواب الحلبة المطحونة و يستمعون إليه و قد علت وجوههم الدهشة و هو يصول و يجول شارحا لهم أسرار العلاقة العائلية بين ملكة إنجلترا و قيصر الروس و إمبراطور ألمانيا، و كيف أن البرنسيس "فيكتوريا" ابنة ملكة الإنجليز قد تزوجت من "فريدريك وليم" إمبراطور ألمانيا السابق الذي خلف والده "وليم الأول" على الملك سنة 1888 و توفي في تلك السنة و خلفه ابنه "وليم الثاني" الإمبراطور الحالي، و كيف أن إمبراطور ألمانيا الحالي يكون تبعا لذلك حفيدا لملكة إنجلترا. ثم يأتي دور القهوة المحوجة و تزداد سخونة المجلس و ينجلي "محمد الزغل" و يتفصد جبينه عرقا و هو يشرح كيف أن البرنس "أوف ويلس" ابن الملكة و ولي عهدها قد تزوج من البرنسيس "ألكساندره" ابنة "كريستيان" التاسع ملك الدنيمارك و هي شقيقة البرنسيس "ماريا دغمار" أرملة القيصر "اسكندر الثالث" والد القيصر الحالي، و كيف أن ذلك يؤدي إلى أن يصبح البرنس "أوف ويلس" و إمبراطر روسيا السابق عديلين و أن يصبح الإمبراطور "نقولا" قيصر الروس الحالي ابن بنت عم ولي عهد إنجلترا.
و حين يأتي دور السكر المكرر بماء الورد يباغتهم "محمد الزغل" بالتصريح الخطير الذي حمله بين جوانحه سرا ثقيلا كأحد المؤتمنين على خبايا البلاطات الملكية؛ فيهمس بصوت متوتر أقرب إلى الفحيح بحقيقة أن البرنس "ألفريد" دوق "أيدنبرج" ابن ملكة الإنجليز متزوج من الغراندوقة "ماريا" بنت القيصر "اسكندر" الثاني، فتعقد الدهشة ألسنة جميع الحاضرين بالمجلس و يستشعر كل منهم برودة الشراب و هي تسري في حلقه، و تأخذهم نشوة مجهولة المصدر و كأنما انزاح من فوق صدورهم هم ثقيل أو ثبتت أمام نواظرهم حقيقة كانوا يشكون بها دون أن يملكوا عليها دليلا. ثم تطول بهم لحظات من الصمت الذي يحافظ جميعهم على قدسيته و هم يستمتعون بممارسة الشعور بالراحة النفسية العجيبة التي انتابتهم بعد أن أيقنوا تمام اليقين أنهم قد أدركوا جانبا من أسرار الحقيقة الكونية.
و كانت "ستوتة" تتابع تفاصيل المجلس الأسبوعي من مكمنها خلف شباك غرفة النوم – حريصة على ألا يلهيها ذلك عن مراقبة الخدم مراقبة صارمة خلال تتابعهم المحسوب و هم يحملون أكواب المشروبات و صواني الطعام – و قد أخذها الانبهار كل مأخذ، على الرغم من سماعها لأغلب هذه الحكايات و الأسرار مرات متعددة؛ حين كان "محمد الزغل" يعود إليها من رحلاته للعاصمة مبهورا منتشيا و هو يقص عليها تفاصيل مغامراته الأسطورية، حريصا على تنبيهها من آن لآخر إلى حقيقة كونها أول شخص يعلم بهذه الأسرار و بضرورة كتمانها لما فيها من مساس حميم بأسرة الجناب الخديوي العالي، و بأن وضعها كزوجة له يفرض عليها أن تكون بئرا لا قرار لها لتلك الأسرار الخطيرة. و كانت "ستوتة" تحرص على العمل وفق هذه الوصية بإصرار مستميت إلى درجة أنها لم تنتبه و لو لمرة واحدة إلى أن ما كان يقوم به "محمد الزغل" في مجلسه الأسبوعي يتنافى تماما مع هذه الوصية، و إلى درجة أنها نجحت في مقاومة نوازعها الفطرية كأنثى حين كانت تجمعها ببعض قريباتها مجالس النميمة و الفضفضة، ربما لتثبت ل"محمد الزغل" أنها تملك من الفضائل – برغم تأخرها المقلق في الإنجاب – ما يجعلها جديرة بأن تكون زوجة مخلصة له و مقدرة لدوره الخطير الذي يلعبه في معاونة الجناب الخديوي في سياسة شؤون الرعية.
و لم يكن يرد على خاطر "ستوتة" و لو على سبيل الشك العابر أن كثيرا من سفريات "محمد الزغل" المتكررة للمحروسة – تاركا الإشراف المؤقت على أملاكه لإدارة "سليم أفندي زاكي كوهين" – إنما هي زيارات للتردد على مواطن الأنس و الفرفشة و بيوت البسط و الهنكرة، إلا أن ثقتها العمياء في "محمد الزغل" إلى جانب ما يتمتع به من مكانة تقارب القداسة في البلد لم يدعاها تجرؤ على التخيل و لو للحظة واحدة أنه بسبيله للتنفيس عن سجيته المخبوءة التي لا يعلم أحد عنها شيئا، و التي يبرع في دفنها تحت ركام الوقار و الهيبة بنفس السهولة التي يدس بها ساعته في جيب الصدار. غير أن "محمد الزغل" – و الحق يقال – لم يكن ليقصر في حق "ستوتة" من حيث تجشم العناء في ابتكار الأسباب القوية و الحجج المتقنة التي تبرر زياراته المتكررة للمحروسة، على الرغم من أنها – حتى و لو علمت بالأمر برمته – لم تكن لتجرؤ هي أو أي من ذويها على مجرد إبداء الامتعاض؛ إلا أن شيئا في نفس "محمد الزغل" – ربما يقينه بإخلاصها الأعمى أو ربما هواجس غير محددة عن عاطفة تجاهها – جعله دوما حريصا على التأكد من اقتناع "ستوتة" بأسباب سفرياته التي تمتد لأيام، فمن القيام بواجب التهنئة بعيد "الجلوس الشاهاني" إلى واجب استقبال الجناب العالي من رحلة "زوريخ"، و من القيام بواجب توديع الحملة المصرية المتوجهة لفتح السودان إلى القيام بواجب العزاء في المغفور له سلطان "زنجبار" الذي اختطفته المنون و هو لم يتجاوز الأربعين من عمره.
3
وقفت "ستوتة" بصحن الدار لتودع "محمد الزغل" و هو بسبيله للمحروسة للقيام بأمور جسام؛ فهي المرة الأولى التي يتعين عليه فيها القيام بواجب العزاء في ثلاثة من وجهاء معارفه دفعة واحدة، السبب الذي جعله يحرص على الظهور متجهما طيلة الوقت و شارحا للجميع مدى عظم المصاب الأليم الذي ألم بالقوم حين أنشبت المنية أظفارها في الشاب المهذب المرحوم "يوسف شكور" ابن أخي حضرة الفاضل عزتلو أفندم "ملحم بك شكور" وكيل إدارة السردارية، و ذلك بعد أن أصابته فركة وبائية صاعقة و هو يخدم بالحدود، مما يحتم القيام بواجب العزاء فيه ثم التوجه لمواساة حضرة الفاضل الهمام "أنطون بك نيكوديموس" لوفاة والدته المرحومة "وردة هانم نيكوديموس". و ليت الأمر يقف عند هذا الحد، إلا أن الأقدار تشاء إلا أن تفجع صديقه الفاضل عزتلو "نجيب بك يوسف" ناظر قلم عموم الإدارة بمصلحة قومسيون الأراضي الأميرية بمصر في والده المرحوم سعادة "يوسف باشا الأنطاكي"، الأمر الذي يستدعي غياب أسبوع على الأقل للتمكن من القيام بالواجب على النحو الأصولي.
أسندت "ستوتة " ظهرها بيدها ثانية جذعها للخلف و مريحة يدها الأخرى على بطنها المنتفخ من أثر الحمل؛ فقد فعلت زيارة "سيدي بسيسة" فعلها و ظهرت البشائر منذ شهور، مما جعل "محمد الزغل" في حالة من السعادة المكتومة التي خففت قليلا من جهامة سمته الوقور، إلى درجة أنه بدأ في ممازحة مستخدمه "سليم أفندي زاكي كوهين" بشكل منتظم، مبديا دهشته من وجود البقعة الزيتية العجيبة التي تستقر بشكل أبدي على الجانب الأيسر لطربوش "سليم أفندي زاكي كوهين" و متسائلا عن مصدرها الغامض الذي يكفل لها أن تظل لامعة دوما كما لو كانت قد لطخت الطربوش لتوها.
غمغم "سليم أفندي زاكي كوهين" في نبرة خفيضة مطلقا عدة أصوات مبهمة مضغمة، إلا أن طريقة تتابعها و تعبيرات وجهه و إشارات يديه أثناء النطق بها قد أفادت بما معناه أنه يتمنى السلامة و الغنيمة ل"محمد الزغل" في رحلته المقبلة.
كان "سليم أفندي زاكي كوهين" نموذجا حيا شارحا للتركيبة الفريدة التي سمحت لليهود بالتعايش في كافة البيئات و التأقلم مع الظروف المحيطة بهم أيا كان نوعها. كان "سليم أفندي زاكي كوهين" هو ممثل الجيل الثاني من أفراد عائلة يهودية شرقية استوطنت البلد و استطاعت بما تميز به أفرادها من مهارات الوساطة و إمساك الدفاتر و الإلمام بدقائق الإجراءات القانونية أن تحوز ثقة الأثرياء و أصحاب النفوذ إلى حد تعيين عدد منهم كوكلاء و مندوبين و أمناء سر و ملاحظين لأراضي و مصالح عدد كبير من هؤلاء الأثرياء و الوجهاء، و من بينهم عائلة "الزغل" بداية من عهد "عبد اللطيف الزغل الكبير" الجد المباشر ل"محمد الزغل".
و قد ورث " سليم أفندي زاكي كوهين" وظيفته في متابعة وابور الطحين و الأرض عن والده الراحل "زاكي كوهين ساسورة"، أحد عباقرة هذه الأسرة و أكثرهم اقترابا من عقول وقلوب وجهاء البلد بما أوتي من مواهب و صفات ساهمت في منحه ثقة غير محدودة، و ما زال الجميع يتحاكون بمهارته المذهلة في قراءة القرآن الكريم تجويدا و تلاوة تضارع مشاهير القراء في زمام البلد، إلى الحد الذي كان من المعتاد معه أن يقوم "زاكي ساسورة" بقراءة ربع كامل في مآتم وجهاء البلد على سبيل المجاملة.
و برغم أن "سليم أفندي زاكي كوهين" لم يرث عن والده هذه الموهبة العجيبة إلا أنه انفرد بمواهبه الخاصة التي كفلت له أن يصير امتدادا للوالد العبقري و وارثا لمكانته في البلد؛ فكان حجة لا تبارى في عويص المسائل القانونية و جسيم المشاكل التجارية، ملما بأسرار حركة الأوراق المالية التي كانت له في مضمارها صولات و جولات قيضت له أن يثبت جدارته كوسيط نابه لمخدومه "محمد الزغل" خلال تفشي وباء الكوليرا بالعاصمة؛ حيث هبطت أسعار الأوراق المالية بسبب رغبة حامليها في بيعها لاستعمال أثمانها في الفرار، فكثر البائعون و عز المشترون في حين أخذت بيوت المال في اتباع أسلوبها المعتاد في الشراء بأبخس الأثمان، و هنا كان "سليم أفندي زاكي كوهين" جاهزا للانقضاض على العشرات من راغبي البيع، حريصا في ذات الوقت على شراء عدد من الأوراق التي أظهرت ثباتا في السعر مثل "الموحد" و "الممتاز" و "الدومين"، حتى تجمعت لدى "محمد الزغل" حصيلة وافرة من الأوراق المالية التي عاودت قيمتها الارتفاع - خاصة تلك التي أظهرت ثباتا في السعر - بعد انتهاء غمة الوباء فسارع "سليم أفندي زاكي كوهين" إلى طرحها للبيع محققا ل"محمد الزغل" هامشا معتبرا من الربح دون أدنى مجهود.
إلا أن الأمر الغريب الذي حير عددا كبيرا من الناس و منهم "محمد الزغل" نفسه هو سر إحجام "سليم أفندي زاكي كوهين" عن استخدام هذه المواهب في خدمة مصالحه الشخصية، و اقتصاره على تسخيرها لخدمة الآخرين نظير أجر، غير أن إحساسا عاما بإمكانية صدور ذلك عن طول العهد بلعب دور الوساطة لدى أفراد هذه الأسرة كان سببا كافيا لعدم استرسال الجميع في متابعة البحث عن أسباب أخرى تبرر هذا الحرص على التمسك بحياة الظل.
غير أن الأمر الذي ظل خفيا على جميع من عرفوا "سليم أفندي زاكي كوهين" أثناء حياته، و الذي حرص هو باستماتة على إخفائه ليظل متعته السرية و الجانب المظلم من شخصيته كان متمثلا في ولعه العارم بالتمثيل و الأدب. و لم يكتشف الأمر إلا بعد وفاة "سليم أفندي زاكي كوهين" حين عثر ورثته على عديد من الخطابات و مسودات الرسائل المتبادلة بينه و بين عدد كبير من نجوم "شركة التمثيل الأدبي"، بل إن إحدى مسودات رسائله قد كشفت عن قيامه بترجمة و صياغة رواية "هاملت" الشهيرة لتصير مناسبة و لائقة للعرض من قبل فرقة "جمعية الابتهاج"، كما كشفت نفس الرسالة عن دوره في صياغة الخطاب الحماسي الذي ألقاه حضرة الأصولي الفاضل عزتلو "إسماعيل بك عاصم" في ختام عرض الرواية، و هو الخطاب الذي وجه من خلاله الدعوة للحضور بالاشتراك في مساعدة منكوبي "كريت" مما أدى إلى خروج الناس صائحين مهللين و محطمين في طريقهم لعدد من عواميد الإنارة و حنفيات الحريق، الأمر الذي أدى لإثارة الهلع و إصابة عدد من الناس بالجروح.
و بتفتيش أحد الصناديق المخبئة في الكرار فوجئ الورثة كذلك بعدد من النسخ لكتاب بعنوان "مرشد النحرير الهمام في معرفة أديان العرب قبل الإسلام" من تأليف "سليم أفندي زاكي كوهين" نفسه و من طباعة جريدة "لسان العرب" بالإسكندرية؛ حيث كشف الكتاب عن إلمام عميق ل"سليم أفندي زاكي كوهين" بدقائق و خصائص الأديان الوثنية و السماوية التي سبقت الإسلام في الانتشار و التواجد بجزيرة العرب، و كذلك فهمه العميق لتأثير و تأثر كل منها بالآخر إلى درجة تخصيصه لفصل كامل لملحوظاته الخاصة بتشابه بعض الممارسات و الشعائر الوثنية – من وجهة نظره – بمثيلاتها من الممارسات و الشعائر الخاصة بالديانات السماوية، نافيا و مستنكرا في ختام فصله أن يكون ذلك مدعاة لاعتقاد القارئ أن الأديان السماوية قد تأثرت بهذه الوثنيات أو انتحلتها، و حريصا على دعوة القارئ لوجوب التمسك بإيمانه و عقيدته سواء أكان يهوديا أو مسيحيا أو مسلما.
4
حين قام "محمد الزغل" بإدراج ابنه في دفتر المواليد الموثق بالمحفوظات الخديوية – مؤكدا بذلك وجاهته كأحد أرباب المدنية المعدودين بالبلد التي لم يكن من المعتاد بها اتباع مثل هذا الإجراء – لم يفته أن يفي بنذر "ستوتة" التي استحلفته بكل غال لديه أن يبر بنذرها ل"سيدي بسيسة" حين وعدته أن تطلق اسمه على وليدها لو أتى ذكرا، و إلا كانت غضبة "سيدي بسيسة" عارمة و ربما آذت المولود الذي أتى بعد طول انتظار، غير أن "محمد الزغل" أراد أن يحتال على الأمر كي يخفف من وقع الاسم غير الشائع؛ فأطلق على المولود اسما مركبا هو "صادق بسيسة" مثبتا إياه في صفحة المواليد بتاريخ 15 سبتمبر (أيلول) سنة 1896 إفرنجي الموافق 7 ربيع الثاني سنة 1314 هجري في اليوم السادس من أيام النسيء سنة 1612 قبطي.
و منذ يومه الأول عملت "ستوتة" على تحصين وليدها "صادق بسيسة" تحصينا فائقا؛ مستعينة في ذلك بترسانة كاملة من الأحجبة و التمائم و التعاويذ و لم يفتها هي و أمها و "أم زهر" القابلة أن يكون الحمام الأول للرضيع بعد سبوعه من ماء الساقية المبروكة، و قد أصرت "ستوتة" على أن يكون أول خروج لها من الدار بعد طهرها من النفاس لزيارة ضريح "سيدي بسيسة" حاملة معها الرضيع الغالي مقمطا في لفائفه الحصينة، و كأنها تعلن للولي العتيد أن معروفه السابغ سيظل يقابل بالامتنان ليس من قبلها فقط و إنما أيضا من قبل المولود الذي كان أول عهد له بالدنيا هو زيارة ضريح سميه المبارك.
و في ذلك العام توفي الفيلسوف الألماني "فردريك انجلز" أحد مشاهير المفكرين والفلاسفة الاشتراكيين في العالم وهو صديق "كارل ماركس" الحميم ومساعده في نشر المذهب كما أنه ظل ينفق على "ماركس" وعائلته حتى مات، من مؤلفاته : أصل الأسرة ، الخاصة والدولة ، الثنائية في الطبيعة ، الاشتراكية الخرافية والاشتراكية العلمية.
و فيه وضعت الدول الكبرى نظاما جديدا لجزيرة كريت اليونانية بحيث يحكمها دائما حاكم مسيحي وقد وافقت تركيا على ذلك وكانت الدولة العثمانية قد وقعت معاهدة في 5 من سبتمبر 1669 من 18 مادة تم بمقتضاها انتقال قلعة "كاندية" الحصينة في جزيرة كريت إلى الدولة العثمانية، إضافة إلى 1100 مدفع كانوا في القلعة، وأن تحصل تركيا على كامل جزيرة كريت وفي الحرب العالمية الثانية سارعت القوات النازية إلى احتلال جزيرة كريت في مايو عام 1941.
و فيه خسرت زنجبار الحرب أمام إنجلترا في حرب لم تستغرق أكثر من 38 دقيقة.
و فيه تم تصميم أول خريطة للأحوال الجوية.
و فيه بدأ تشغيل أول مركبة ترام بالقاهرة.
و فيه ولدت ملكة كتابة الروايات البوليسية في العالم "أجاثا كريستي".
و فيه تم اكتشاف النشاط الإشعاعي الطبيعي؛ وقد اكتشف هذا الفرنسي ”هنري بيكيريل" في باريس عام بينما كان يجري بعض التجارب على اليورانيوم. حيث قام بوضع عينة على فيلم حساس داخل غلافه. وكم كانت دهشته عند تحميض الفيلم عندما وجد صورة العينة بحدودها مطبوعة على الفيلم.
و فيه توفي السيد "عبد الله النديم" خطيب الثورة العرابية عن 53 سنة.
و فيه وفاة المخترع السويدي "الفريد نوبل".
الرواية متوفرة بدار هلا للنشر و التوزيع
6 شارع الدكتور حجازي، الصحفيين – الجيزة – جمهورية مصر العربية.
تليفون: 33041421 (202)
فاكس: 33449139 (202)
تليفون: 33041421 (202)
فاكس: 33449139 (202)
No comments:
Post a Comment